الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:40 AM
الظهر 12:38 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:17 PM
العشاء 8:37 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

صورة محيّرة للحياة

الكاتب: عبد الغني سلامة

 إذا كنتَ محظوظاً، وتمتلك شرفة تطل على الأفق بمنظر طبيعي خلاب، ستُسرُّ كل صباح، وأنت تتأمل جمال المشهد وترتشف قهوتك، وتستمتع بصوت فيروز المتداخل مع زقزقة العصافير، وستقول لنفسك: الله، ما أجمل الحياة.  
ولو كنتَ تسكن شقة محشورة في عمارة عشوائية، في حي شعبي، أو مزدحم بعشرات العمارات الإسمنتية، ولا تسمع سوى أصوات «الزوامير»، وصراخ الأمهات على أطفالهن، ونداءات الباعة الجائلين.. ستشعر بالاختناق، وستقول بصوت مكبوت ممزوج بالأسى: تباً للحياة.
وإذا ذهبتَ في رحلة إلى البراري، حيث الماء والخضراء والوجه الحسن، ستقول: ما أجمل الطبيعة.. وإذا خرجتَ مساءً قاصداً حفلاً موسيقياً، أو سهرة مع الأصدقاء في كافتيريا من النوع الذي يقدم «المنيو» بالإنجليزية، ستشاهد الأضواء المبهرة والإعلانات اللافتة، ونوافير الحدائق.. وستقول بكثير من الرضا: ما أجمل هذه المدينة.
أما إذا خرجت إلى نفس المدينة ساعة الذروة، بهدف تجديد الرخصة، أو إنجاز أي معاملة رسمية، فتعلق في الازدحامات المرورية، والطوابير الطويلة، وتسمع الزعيق وشتائم السائقين، وتذمر المشاة، وأبواق الشاحنات.. ستشعر بالحنق، وتقول بكثير من السخط: ما أبشع هذه المدينة.
ولو شاهدتَ برنامجاً وثائقياً عن عالم البحار، حيث الدلافين اللطيفة والأسماك الملونة، أو عن القمم الشاهقة التي تحبس الأنفاس، أو غابات الأمازون وتنوعها الحيوي المدهش، أو الحياة البرية، حيث الأنهار المتدفقة، والغزلان الشاردة، والورود المتفتحة، والطيور المهاجرة.. ستقول لنفسك: لقد كان خياري ذكياً وموفقاً أنني اخترت كوكب الأرض بالذات للإقامة فيه.. فهنا المياه العذبة، والمناخ المعتدل، وفي الأعالي ثمة طبقة أوزون تحمينا من إشعاعات الشمس الضارة، وفي باطن الأرض ما يكفينا من معادن ومصادر طبيعية، وفي غلافها الجوي ما يكفي من الأوكسجين ويزيد، وعلى سطحها ما يكفي من طعام، وفي فضائها الرحب أجمل المناظر.  
ولكنك ستندم على اختيارك كوكب الأرض بعد أن تشاهد برامج وثائقية أخرى تتحدث عن البراكين الغاضبة، والزلازل المدمرة، والأعاصير العاتية، والفيضانات التي لا ترحم، وموجات التسونامي المخيفة، وعن زحف الصحراء وتمددها، والجفاف، وشح المياه، والتغير المناخي، وتهتك طبقة الأوزون، والأوبئة الفتاكة، والفيروسات القاتلة، والأمراض التي استعصت على الطب، وعن قسوة نظام الطبيعة، وتوحش المفترسات مع الطرائد، والكائنات المهددة بالانقراض، والتي انقرضت بالفعل، وعن اختلال التنوع البيولوجي، وعن الجوع والمجاعات.
وإذا رجعت قليلا في الماضي، ستقول: ما أهنأ حياة الناس القديمة، حيث راحة البال، والهدوء، والتعايش مع الطبيعة، والطعام الصحي الخالي من المواد الحافظة والمسرطنات، والهواء العليل الذي لا تلوثه غازات المصانع، ولا عوادم السيارات، ولا أمواج البث الكهرومغناطيسية، وحيث كان الناس بسطاء وطيبين، يقبلون بالقليل، ويسهرون على ضوء القمر، ويصحون باكراً نشطين، مفعمين بالأمل.
ولكنك، لو أمعنت النظر قليلا إلى ذلك الماضي الجميل، ستعرف أن حياتهم كانت قاسية وصعبة؛ البيوت بلا حمامات، الأثاث بسيط ومتهالك، المطبخ، إن توفر، بلا تصريف صحي، وبلا مواقد، فمن أراد تسخين طعامه، أو إعداد كوب شاي، عليه إشعال موقد الحطب، وهذه عملية مسلية فقط عندما تكون في رحلة.. ولعدم وجود كهرباء فقد كانت الليالي مظلمة، والناس تنام باكراً لأنهم مجبرون، ولأنهم لا يجدون ما يفعلونه، وليس لديهم وسائل تسلية، سوى «الخراريف» والقصص، وسيرة الناس، ولم تتوفر حينها خدمات صحية، ولا مدارس، ولا كل ما نعرفه، وما اعتدنا عليه من أساليب الحياة العصرية.
ولو اطلعت قليلاً على تاريخنا القديم، ستقرأ عن البطولات والفتوحات والأمجاد والتوسعات، وعن الفرسان الشجعان، والكرم الحاتمي، والأشعار البليغة.. ولو دققت قليلاً، ستجد أن تلك البطولات والأمجاد كانت غزوات، تسفك فيها الدماء، وتحرق البيوت، وتُسبى النساء، ليصبحن جواري وإماء، وليغدو الأطفال غلماناً في قصور الأغنياء، أو جنوداً في جيش الغزاة المنتصرين، ومن نجوا من الذكور يصبحون عبيداً وخدماً لأسيادهم الجدد.  
ولو اطلعت على التاريخ السحيق للبشر، ستُعجب بحياة الصيادين، وجامعي الثمار، وتلك التجمعات البشرية البسيطة، ورحلات التوسع والهجرة، واستكشاف العالم البكر.. وتتخيل شجاعتهم، وذكاءهم الفطري في التكيف مع الطبيعة، وظروفها القاسية، وعبقريتهم في اختراعاتهم لأدواتهم البسيطة.
لكنك ستحزن عليهم، حينما تدرك مدى خطورة الحياة التي عاشوها آنذاك، فبمجرد غياب الشمس يعم الظلام الدامس، ويصبح الكهف الذي ينامون فيه هو نفسه أخطر مكان للمبيت، حيث الأفاعي والعقارب، والوحوش الضارية.. والأعداء المجهولين، والهلاك جوعاً، وظواهر الطبيعة التي لم يدركوا كنهها بعد.
ولو تأملت طبيعة الإنسان الداخلية، ستجد الناس الطيبين، الفرحين، المتفائلين، الكرماء.. ولو نظرت إلى منجزاتهم، ستجد الفن، والإبداع، والاختراعات، والطب، والآداب، والفلسفة، والمدن، وحقوق الإنسان.. ولكنك ستجد أيضاً الكراهية، والغيرة، والأطماع، والغباء، والأنانية، والتعصب، وتاريخاً طويلاً ممتداً كله عبودية وظلم وعنف واستغلال واحتلال وعنصرية.
وإذا سرحت قليلاً وبنيت صورة عن المستقبل، ستتمنى لو يمتد بك العمر لترى ما يخبئه من أشياء مثيرة ومدهشة، وما سيظهر من اختراعات، وما يتنبأ به العلماء عن الهندسة الوراثية، وتقنيات «النانو»، وألياف الكربون، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والاتصالات، وعوالم الكمبيوتر الواعدة، والهواتف الذكية، والأسطح الذكية، والمدن الذكية.. والحلول الذكية لظواهر الطبيعة، وتسخيرها لخدمة الإنسان، والبيئة، والتنوع الحيوي.
لكنك ستُصاب بخيبة أمل، وتتمنى أن ينقضي أجلك قبل أن تصل إلى ذلك المستقبل «المخيف»، حين تسمع توقعات العلماء والخبراء، أو تعرف عن طموحات السياسيين وزعماء الطوائف وأمراء الحروب.. حيث حروب الدول الكبرى، والحروب الأهلية، والسلاح النووي، وتلويث البيئة، وتداعيات التغير المناخي، والانفجار السكاني الرهيب، وشح الموارد، والمجاعات، وحروب المياه والعطش، وتدفق الملايين من الجنوب إلى الشمال في هجرات جماعية، وتداعي النظام العالمي، وانهيار قيم حقوق الإنسان.. حينها سيغدو العالم بأسره ساحات حروب طاحنة، ومكانا لا يصلح للعيش.
الخبر السيئ أنه لا يوجد كوكب آخر يمكننا الهروب إليه، وليس أمامنا إلا العيش والموت على كوكب الأرض.. والخبر الجيد أن واقعنا الراهن أفضل من الماضي البعيد، وربما يكون أفضل من المستقبل البعيد أيضاً.
إذا وعينا دروس التاريخ، وخططنا جيداً للمستقبل، وأدركنا أن حياة جميع البشر ومصالحهم ومصائرهم تقتضي منهم التوحد والتعاون ونبذ الحروب، واحترام البيئة، حينها فقط سيكون المستقبل سعيداً.
واللي بعيش بشوف.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...