الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:32 AM
الظهر 12:37 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:21 PM
العشاء 8:42 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

قناعات متأخرة

الكاتب: سما حسن

ما بين اليوم وقبل سنوات خمس، تغيرت أشياء كثيرة داخلي، مرت على رحيل أبي خمس سنوات كاملة ومرت سريعا، هكذا أصفها، تضاءل فيها الحزن وبقي الشرخ الأول، تخيل الضربة الأولى لفأس في الشجرة العتيقة، كم تكون مؤلمة وقوية! ثم تتهاوى إلى جوارها ضربات أخرى ليست بقوتها لكنها تسقط جذع الشجرة مع تواليها، هكذا كنت أنا، هكذا وجدت نفسي مع رحيل أبي.
الضربة الأولى كانت مؤلمة ونزفت كثيرا من روحي وقلبي ونفسي، هكذا وجدت نفسي بلا أب، وجدت نفسي وحيدة، لكن، اليوم، بدأت أفكر كم أتعبت ذلك الرجل السبعيني وكم أرهقته وكم توقعت أن يبقى قويا وقادرا على حل مشاكلي والذود عني حتى النهاية.
لم أكن أعرف أن الإنسان يضعف ويتغير وأن قدراته وقوته تتضاءل، وأن الإنسان طاقة مثل مصباح يعمل على الكيروسين تتضاءل طاقته ويقل وقوده لحظة بعد لحظة، فلا يمكن أن يبقى المصباح مشعا طيلة الوقت، ومن الطبيعي أن يخبو الضوء بعد ساعة أو أكثر، لكني لم أكن أعرف أن هذا الرجل لم يعد يحتمل.
أخطأ أبي كثيرا حين تخيل أنه سيبقى قويا إلى الأبد، وأنه سيبقى الأب الحازم الذي يرتعد الصغار حين يسمعون صوته خلف الباب ومفتاحه يدور في قفل الباب، لكنه أصبح، ذات يوم ضعيفا وانهكه المرض ونال منه العمر، وها هو، لم يعد قادرا سوى على الدعاء، أصبح لسانا لاهثا ولم يبق له حول ولا قوة أمام ما تعصف به المستجدات في حياتنا.
أصبح يشعر بالمفاجأة والصدمة حين أصبحت الحياة أقسى مما عهدها، وضاقت بنا الظروف وتغيرت الدنيا ومتطلباتها، إنه يشعر بالصدمة لأنه لا يرى في الحياة إلا النماذج التي ربانا عليها، لا يرى في الحياة إلا القيم والمبادئ التي ربى أولاده عليها، لكنه لم يعرف كيف تغيرت الحياة وكيف أصبحت قاسية وعليه أن يلقي بأولاده في هذا البحر الهائج الجارف الظالم القاسي.
أشفقت على أبي لأنني حمّلته فوق طاقته وأنني لم أكن اعترف أنه قد جاوز السبعين من عمره، لكني كنت أشركه في كل شيء حتى أحزن قلبه الواهن، لم أكن أعرف أن قلبه لن يحتمل وربما هو قد أخطأ لأنه لم يتركنا نواجه الحياة ولم يتركنا لكي يصلب عودنا ويشتد، فقد بقينا نهرع إليه مثل الصغار الذين يريدون من الأب أن يعيد ربط الحذاء وإحكام وضع قدمنا الصغيرة بداخله، ويريدون منه أن يحكم إغلاق السترة حتى لا يلفحنا الهواء.
تغير الزمن ودارت دورته عليه ولم يعد يحتمل، لكنه في عيوننا لم يتغير خاصة بعد رحيل الأم وحين طالبناه بدور مضاعف وأسبغ علينا حبه ورعايته وحنانه، أعطانا ما تبقى من عمره كأنه قد أدرك أنه مطالب بذلك بلا هوادة وبلا رحمة وبلا وازع من ضمير، هكذا وجد نفسه يكمل المسيرة بعد رحيل الأم ويحمل ما ينوء به قلبه ويثقل روحه.
اليوم، وبعد مرور سنوات خمس، أصبحت لدي قناعة أن رحيل أبي لم يكن فاجعة بل كان متوقعا وحتميا لأن ذلك الرجل الطيب لم يعد يحتمل، ولأنه كان ممزقا بين حبنا وقلة حيلتنا كأولاده، ويرى خذلان الجميع من حوله حين أصبح متقاعدا.
تلك الحقيقة التي يجب أن نصحو عليها، وهي أن الأب لا يبقى كما كان وأنه يتعب والأم تتعب، وأن الخطأ الذي يقع فيه الأبناء هو إصرارهم على اللحاق بآبائهم وأمهاتهم حتى المأوى الأخير، هذا هو الخطأ الذي لن أسامح نفسي عليه ما حييت، ربما لأن أبي ظل يقتلع الشوك من طريقي واليوم، أصبحت أسير دامية القدمين لأن ذلك الرجل احبني اكثر مما يجب وليس كما يجب.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...