فلسطين وإسرائيل: الأبيض والأسود

2022-05-17 07:22:35

أن يحتفل الإسرائيليون في أيار كل عام باليوم الذي يعتبرونه يومهم الأبيض، والذي يعتبر في نفس الوقت يوم فلسطين الأسود، وبالمناسبة التي تعتبرها إسرائيل استقلالها، فيما يعتبرها الفلسطينيون نكبتهم، أقل ما يمكن أن يقال في هذه الحالة هو: إن فلسطين هي نقيض إسرائيل، وإن إسرائيل حين قامت ونشأت فقد حجبت بنشأتها قيام دولة فلسطين.

والحقيقة هي أن الإسرائيليين كاذبون ومزورون، فحين احتلت بريطانيا العظمى أرض فلسطين بعد انتصارها في الحرب العالمية الأولى - وكانت لأربعة عقود خلت قبل ذلك ضمن أملاك الدولة العثمانية، كما كان حال كل الوطن العربي باستثناء اليمن، أي كان حالها مثل مصر والعراق والأردن، التي كانت من ضمن حصة بريطانيا وفق سايكس/بيكو حيث وزع الإنجليز والفرنسيون غنيمة الحرب التي ظفروا بها من الدولة العثمانية بينهما - كان يمكن بذلك أن تستقل فلسطين بعد حرب تحرير ضد الاحتلال البريطاني، أو ضمن التطورات السياسية اللاحقة في ظل الحرب الباردة وغروب شمس بريطانيا لصالح الولايات المتحدة، كما حدث مع مصر والعراق والأردن، وحتى سورية وتونس والمغرب والجزائر التي استقلت عن فرنسا.

لم تحتل بريطانيا العظمى إسرائيل، أو أنها لم تحتل فلسطين وهناك شعب اسمه إسرائيل أو دولة أو حتى أرض اسمها إسرائيل، ولا حتى حركة تحرر اسمها الحركة الإسرائيلية، أو حركة تحرير شعب إسرائيل، بل إن الهجرة اليهودية إلى فلسطين من كل أنحاء الدنيا بدأت بعد صدور وعد بلفور البريطاني وقبل أن تحتل بريطانيا فلسطين، أي أن إسرائيل التي قامت استناداً إلى وعد بلفور قامت بقوة الاستعمار البريطاني، فكيف يدعي الإسرائيليون أنهم قد استقلوا عن بريطانيا، التي هي من أنشأت لهم وطناً خاصاً بهم في فلسطين، ويؤسسون لذلك يوم إعلان انتهاء انتدابها على فلسطين، يوم الخامس عشر من أيار من العام 1948، وكل الوثائق والعملة التي صكتها بريطانيا، خلال ثلاثين عاماً من احتلالها فلسطين، كانت تسمي هذه الأرض فلسطين، حتى وهي تكتب اللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والعبرية على العملة كانت تسميها فلسطين، أي أنه لولا أن قيام إسرائيل ترافق مع إعلان انتهاء الانتداب لكان ذلك اليوم هو يوم استقلال فلسطين.

بذلك فإن إعلان إسرائيل، بعد لحظة من سريان زمن ما بعد الانتداب، لا يعني سوى أن استعمار واحتلال فلسطين ما زال قائماً، وأن فلسطين لم تستقل بعد، وأن الاستعمار البريطاني قد استبدل بالاستعمار الصهيوني/الإسرائيلي، والذي هو ذو طبيعة إحلالية، أي لا يكتفي بالاحتلال العسكري، بل يقوم بإسكان «مواطنيه» بدلاً من مواطني البلاد الأصليين، من خلال إقامة المستوطنات. وفي حقيقة الأمر، فإن معظم دول الاستعمار  أنشأت مستوطناتها، ففرنسا أقامت مستوطنات لها في الجزائر، والفصل العنصري أقام مستوطنات البيض في جنوب أفريقيا، والغريب هو أن المستوطنات أي التجمعات السكانية الاستعمارية تحاط بالأسلاك الشائكة والمعازل، ولا تندمج مع السكان الأصليين، لأنها لا تسعى للتعايش أصلاً، وإذا كانت المستوطنات الاستعمارية قد أقيمت بشكل محدود في النموذج الفرنسي والأفريقي، فإنها أقيمت على نطاق واسع في فلسطين، نظراً لأن إسرائيل لم تكن موجودة، لا في فلسطين ولا خارجها، ولم يكن لها جيش خارج حدود فلسطين.

هذه الصورة وهذه الخلفية، التي تظهر الصراع بين فلسطين وإسرائيل على أنه صراع الدببة، أو عناق الموت، ولا تشبه وجهَي العملة الواحدة ولا بأي شكل من الأشكال، تدفع المتشددين على الجانبين، للتشبث بسياسة نفي الآخر، فعلى الجانب الفلسطيني ما زال هناك من يقول: إنه لا تراجع عن حق فلسطين في كل أرضها من النهر إلى البحر، وعلى الجانب الإسرائيلي هناك أغلبية تنفي الحق الفلسطيني في الاستقلال بدولة خاصة، حتى لو كانت على ربع أرض فلسطين التاريخية.

ويعتمد عادة هؤلاء على تقديرات ميتافيزيقية أو مقاربات سياسية قد يكون فيها بعض من الحقيقة أو الإقناع، لكنها خارج سياق العصر والمنطق العلمي، وكان لافتاً أن أيهود باراك رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق حذر من زوال إسرائيل، وذلك في مقال في «يديعوت أحرونوت» قبل أكثر من أسبوع، أي بمناسبة مرور الذكرى الرابعة والسبعين للحدث الإشكالي، أي ما تعتبره إسرائيل ذكرى استقلالها وتعتبره فلسطين ذكرى نكبتها، حين أشار إلى أن كثيراً من الدول واجهت احتمالات التفكك والزوال بعد ثمانين عاماً من نشأتها، وقدم مثالاً على ذلك الاتحاد السوفياتي والحرب الأهلية الأميركية، كذلك تحول إيطاليا للفاشية في العقد الثامن من توحيدها، وكان ذلك أيضاً قد ظهر في عمر مشابه لألمانيا حين تحولت للنازية.

الأكثر إثارة كانت إشارة باراك إلى تحذيرات «التلمود»، التي تشير إلى مملكة داود التي انقسمت إلى يهودا وإسرائيل بعد ثمانين سنة من إقامة مملكة داود، والغريب هو أن هناك من يشيرون لهذا على الجانب الآخر.

السؤال الذي يطرحه المعتدلون، بهذه المناسبة، من الباحثين عن الحل السياسي الوسط، هو: أليس هناك من لون رمادي بين الأبيض والأسود؟ أي أن تتجاور الدولتان أو أن يتعايش الطرفان بدلاً من محاولة أحدهما نفي الآخر؟ والجواب دفعت به الأمم المتحدة منذ قرار التقسيم عام 1947، وكررته مع تعديلات القرارات اللاحقة والمواقف الدولية التي وصلت إلى حل الدولتين، عبر التسوية السياسية بين الطرفين، لكن الحقيقة المرة تقول: إن ذلك لم يتحقق رغم الفرصة التي كانت قريبة من ذلك لحظة الاتفاق المكتوب بينهما ولأول مرة، والذي كان عام 1993/1994، وما زال الأفق قاتماً.